اللَّحْنُ في مِحْرابِ التَّراويحِ بالحرمينِ الشريفين
الشيخ عبدالعزيز القاريء
اللَّحْنُ في اللغة يأتي بمعنى الخطأ وبمعنى الصواب ؛ فهو من الأضداد يُقالُ : لَحَنَ في كلامه إذا أخطأ في اللغة ، ويُقالُ : لَحَنَ في كلامِهِ إذا أجَادَهُ وأحْسَنَهُ ، ومن اللَّحْن بمعنى الصواب قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : 30] أي في صواب القول وصحته ، وهذا كان من سِمَات المنافقين ؛ قال عز وجل : (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ..) [المنافقون : 4]([1])
واللَّحْنُ في الكلام بمعنى الخطأ هو مقصودُنا هنا ، وكان مذمومًا عند العرب يَسْتَعِيبُونَهُ ، ويَعُدُّونَهُ هُجْنَةً للشريف .
قال الأنباري : قال العتبي عن أبيه : استأذن رجل من عِلْيَة أهل الشام على عبد الملك بن مروان وبين يديه قوم يلعبون بالشِّطرنج فقال : يا غلام غَطِّهَا . فلما دخل الرجل فتكلم لَحَنَ ، فقال عبد الملك : يا غلام اكشف عنها الغطاء ، ليس لِلَاحِنٍ حُرْمَةٌ .
وقال الأنباري : دخل رجل على عبد العزيز بن مروان فشكا إليه خَتَنَهُ ، فقال : ومن خَتَنَكَ ؟ قال : ختنني الخَتَّانُ . فقيل لعبد العزيز : أيها الأمير إنه لم يفهم عنك قولَكَ . قال : فأفهِمُوهُ . فقالوا له : من خَتَنُكَ ؟ فقال ختني فلان . فاستحيا عبد العزيز وألزم نفسَهُ ألَّا يجلس للناس حتى يعرفَ من العربية ما يُصْلِحُ كلامَهُ ويُزِيلُ اللَّحْنَ منه([2]) .
ورأى أبو الأسود الدؤلي أعْدالًا [العِدْلُ نصف حِمْلِ الدابة] مكتوبًا عليها : لأبو فلان . فقال : سبحان الله يلحنون ويربحون ؟!([3])
ولذلك كان السلفُ رضوان الله عليهم يُوصُون لِتَجَنُّبِ اللَّحْن بتعَلُّمِ العربية ..
قال ابن عبد البر : كتب عمرُ إلى أبي موسى الأشعري : أما بعدُ فتَفَقَّهُوا في السنَّةِ وتعلَّمُوا العربية([4]) .
ورُوِيَ عنه رضي الله عنه أنه قال : رحِمَ الله ُ امرءًا أصلَحَ من لِسَانِهِ . وذكره الأنباري عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ورَوَى الحاكمُ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلًا قرَأَ فلَحَنَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : «أرْشِدُوا أخَاكُمْ»([5]) .
وكان عبدُ الله بن عمر يضرب وَلَدَهُ على اللَّحْنِ .
وكان عبدُ الله بن المبارك رحمه الله يقول : اللَّحْنُ في الكلام أقبحُ من الجِدْري في الوجه([6]) .
واليوم تجد اللَّحْنَ في كل مكان ، لا يكاد يَسْلَمُ منه أحدٌ ؛ الأصاغرُ والأكابرُ ، وخطباءُ الجمعة ، وغيرُهم ، كلُّهم يَلْحَنُونَ ، العُجْمَةُ أصبحَتْ داءً عُضَالًا ، واعْوجَاجُ الألسنةِ أصَابَ حتى العربَ الأقْحَاحَ ..
وأشَدُّ اللَّحْن سوءًا وأكثرُهُ عيبًا ، ما يقع في قراءةِ القرآن .. ومرَّ في حديثِ أبي الدرداء ما يفيد أنه نوعٌ من الضلال يحتاج من يقع فيه إلى إرشادٍ ، حَسْبَ اللفظِ النبوي ..
وتجنُّبُ اللَّحْنِ في قراءةِ القرآن يتحقق بتعلُّمِ «التجويد» وإتقانِهِ ؛ وهو من أهم علوم العربية ، وسبقت وصية الفاروق رضي الله عنه بتعَلُّمِ العربيةِ .
واللَّحْنُ عند المُجوِّدِين قسمان : جَلِيٌّ وخَفِيٌّ ؛ فأما الجليُّ فهو خَلَلٌ يَطْرَأُ على الألفاظِ فيُخِلُّ بالمعنَى والعُرْفِ ، أو خَلَلٌ يطرأُ على الألفاظ فيُخِلُّ بالعُرْفِ دون المعنى [من عبارة الجزري في التمهيد] ، والمقصود بالعُرفِ أحكامُ التجويدِ ، فهي عُرْفُ أهلِ الأداءِ ، فمخالفةُ أحكام التجويد لَحْنٌ ، فإذا كانت هذه المخالفةُ واضحةً بحيث يشتركُ في معرفتها أهلُ التجويد وغيرُهم سُمِّيَ اللَّحْنُ جَلِيًّا ؛ أي واضحًا ، مثل الإخلال بمَبْنَى الحرفِ أو بحركة الإعرابِ ، والإخلالُ بالحروفِ يكون سببُهُ عدَمُ تحقيق مخارجِهَا ، وصفاتِهَا التي تتميز بها ، وهذا أهمُّ مطالبِ التجويدِ ؛ قال الحافظ أبو عمرو الداني : «اعلموا أن قُطْبَ التجويد ومِلَاكَ التحقيقِ معرفةُ مخارجِ الحروفِ وصفاتِهَا التي بها ينفصل بعضُهَا عن بعضٍ وإِنِ اشْتَرَكَ في المخرج ..»([7]).
وهذا الإخلالُ بالحروفِ أو بحركاتِ الإعرابِ يُعَدُّ لحنًا جليًا وإنْ لم يُفْسِدِ المعنى فكيف إذا أفسَدَ المعنى ..
ويدخل في اللَّحن الجليِّ مخالفةُ أحكام التجويد المُجْمَعِ عليها وإن لم يكن بها تغييرٌ للحرفِ أو الإعرابِ ، مثلُ قَصْرِ المُتصِل أو تَرْكِ الغنَّةِ بالكليةِ ، أو غَنِّ ما لا غُنَّةَ فيه ، أو إمالةِ ما لا إمالةَ فيه .
ومن اللحن الجليِّ الوقوفُ القبيحةُ التي يكون فسادُ المعنى فيها واضحًا جليًّا : مثلُ الوقفِ على المَنْفِي من كلمةِ التوحيدِ ؛ فيقولُ : (فاعْلَمْ أنَّهُ لَا إِلهَ ..) ويقف ، ومثلُ الوقفِ على المَوْتَى في قوله (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى) ويقف .
وأما اللَّحنُ الخفيُّ فهو الخطأ الذي لا يدركه إلا الحُذَّاقُ من أهل الأداء ويخفى على العامَّةِ ، وغالبًا ما يتعلق بتحسين النطق وإتقان شرطِ الأداءِ لا بتصحيحِ النطق ، أو تحقيقِ شرطِ الأداءِ ، مثلُ عدم ضبط مقادير المدود ، أو عدم المساواة بين مقادير المدِّ الواحدِ في المَقْرَأ الواحدِ ، كأن يَقْصُرَ المنفصل في موضع ويمده في الموضع الذي يليه، ومثل زيادة التكرير في الراآت أو تطنينِ النونات ، أو تغليظِ اللاماتِ في محل الترقيق ، أو العكس ، أو تفخيم الهاءاتِ في لفظِ الجلالةِ (الله) في حالة النصب ، أو نحو ذلك ، واللحن الخفيُّ قلَّ من يَسْلَمُ منه ، وفيه تختلف مقاماتُ المُجَوِّدين إتقانًا وإحكامًا ، فهم درجاتٌ في السلامةِ منه بَعْضُهَا فوق بَعْضٍ ، لكنه إذا كَثُرَ في قراءةِ المُجوِّدِ أفْسَدَهَا .
وفي حكم الصلاة خلف من يلحن ، يفهم من كلام الخِرَقي وصاحبِ المغني ، أنه لا يجوز للمُجَوِّد أن يأتمَّ به إذا كان يلحن لحنًا يُحِيلُ المعنى ، ويكره إذا كان لا يحيل المعنى .
ولا يُعْتَدُّ بصلاته فعليه الإعادة في الحالة الأولى([8]) .
نصل بعد ذلك إلى موضوعنا وهو اللَّحْنُ في محراب التراويح في المسجدين المقدَّسين : المسجدِ الحرام والمسجدِ النبوي :
مما يَحُزُّ في النفسِ أننا صرنا نسمع كثيرًا من اللحن الجليِّ من بعضِ أئمةِ المسجدين، وأما اللحن الخفيُّ فلا تسأَلْ عنه لكثرته ..
قبل الشروع في تفصيل ذلك أحب – اعترافًا بالفضل لأهله – أن استثني الشيخين المتقنين : الشيخ سعود الشريم بالمسجد الحرام ، والشيخ علي الحذيفي بالمسجد النبوي ، فلم أسمع في قراءتهما شيئًا من اللحن الجليِّ ، وأندرُ من النادر وقوعُ شيءٍ من اللحن الخفيِّ منهما ؛ فنسأل الله تعالى أن يبارك فيهما ويحفظهما ذخرًا للمحراب وللمسلمين .
لكن الباقين سامحهم الله يأتون بالعجائبِ ؛ كأنهم يقرأون حَسْبَمَا يشتهون ، لا حَسْبَ شرطِ الأداء ؛ فيقعون في اللحن الجليِّ ، وكثيرٍ من اللحن الخفيِّ ، ومثلُ هذا في هذا المقام لا تقتصر فيه الفضيحةُ التجويديةُ علينا في الداخل بل تُنْشَرُ في العالم بواسطةِ البَثِّ الفضائيِّ ، حتى قال لي أحدُ شيوخِ القراء خارجَ المملكة : إن لم يكنْ عندكم مُجوِّدون مُتْقِنُونَ نُرْسِلُ لكم من عندنا . فتذكَّرْتُ ما صنع الملكُ عبد العزيز رحمه الله مُؤسِّسُ المملكة ؛ أول ما عيَّنَ في المسجد الحرام قارئًا مصريًا هو الشيخ عبد المهيمن أبو السمح رحمه الله ، وعَيَّنَ في المسجد النبوي إمامًا مغربيًا هو أستاذنا الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله ، لكنه لم يكمِّلْ سَنَةً في الإمامة ، حيث عُزِلَ بناءً على شكوى من أهل المدينة أنه يُطِيلُ في الصلاة ، هكذا سمعْتُ من بعض أهل «النُّخَيْل» لأنه انتقل إليهم بعد عزلِهِ وفتَحَ عندهم درسًا في «التوحيد» .
وينبغي أن يُفهم من خطوة الملك عبد العزيز رحمه الله بتعيينِ هذين الإمامين أهميةُ هذين المسجدين المقدَّسين للعالمِ الإسلامِي ، فأَحبَّ أن يُشْرِكَهُ في إمامتهما ..
ونحن اليوم لا نحتاج إلى أئمةٍ من خارج المملكة ، ففيها من القراء المتقنين الكثيرون والحمد لله ، وفيها نهضة قرآنية لم يسبق لها نظير في التاريخ القريب ، فالألوف المؤلَّفة اليوم من الصغار والكبار يحفظون القرآن ويُجوِّدونه ..
لكن لا عذر لنا إذا نصَّبْنَا في هذا المحراب الهام الخطير من لا يُجوِّد القرآنَ ويقع منه اللحنُ الجليُّ والخفيُّ ؛ ثم ننشر هذا على العالم بالبث الفضائي ؛ إن هذا يشبه تحريفَ القرآن ، ثم نشْرَ هذا التحريف على أوسع نطاق ؛ لأن من يقف في محراب المسجد الحرام أو محراب المسجد النبوي هو في مقام الاقتداء به ، فإذا لَحَنَ يقتدي الناس بلحْنِهِ ، أي بخطئه .
وقد سمعْتُ بعضَ أئمةِ المساجدِ يقتدون ببعض أئمة الحرمين في أخطائهم ، مما هو من قبيل اللَّحْنِ الجليِّ ..
يتبع
الشيخ عبدالعزيز القاريء
اللَّحْنُ في اللغة يأتي بمعنى الخطأ وبمعنى الصواب ؛ فهو من الأضداد يُقالُ : لَحَنَ في كلامه إذا أخطأ في اللغة ، ويُقالُ : لَحَنَ في كلامِهِ إذا أجَادَهُ وأحْسَنَهُ ، ومن اللَّحْن بمعنى الصواب قوله تعالى : (وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ) [محمد : 30] أي في صواب القول وصحته ، وهذا كان من سِمَات المنافقين ؛ قال عز وجل : (وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ..) [المنافقون : 4]([1])
واللَّحْنُ في الكلام بمعنى الخطأ هو مقصودُنا هنا ، وكان مذمومًا عند العرب يَسْتَعِيبُونَهُ ، ويَعُدُّونَهُ هُجْنَةً للشريف .
قال الأنباري : قال العتبي عن أبيه : استأذن رجل من عِلْيَة أهل الشام على عبد الملك بن مروان وبين يديه قوم يلعبون بالشِّطرنج فقال : يا غلام غَطِّهَا . فلما دخل الرجل فتكلم لَحَنَ ، فقال عبد الملك : يا غلام اكشف عنها الغطاء ، ليس لِلَاحِنٍ حُرْمَةٌ .
وقال الأنباري : دخل رجل على عبد العزيز بن مروان فشكا إليه خَتَنَهُ ، فقال : ومن خَتَنَكَ ؟ قال : ختنني الخَتَّانُ . فقيل لعبد العزيز : أيها الأمير إنه لم يفهم عنك قولَكَ . قال : فأفهِمُوهُ . فقالوا له : من خَتَنُكَ ؟ فقال ختني فلان . فاستحيا عبد العزيز وألزم نفسَهُ ألَّا يجلس للناس حتى يعرفَ من العربية ما يُصْلِحُ كلامَهُ ويُزِيلُ اللَّحْنَ منه([2]) .
ورأى أبو الأسود الدؤلي أعْدالًا [العِدْلُ نصف حِمْلِ الدابة] مكتوبًا عليها : لأبو فلان . فقال : سبحان الله يلحنون ويربحون ؟!([3])
ولذلك كان السلفُ رضوان الله عليهم يُوصُون لِتَجَنُّبِ اللَّحْن بتعَلُّمِ العربية ..
قال ابن عبد البر : كتب عمرُ إلى أبي موسى الأشعري : أما بعدُ فتَفَقَّهُوا في السنَّةِ وتعلَّمُوا العربية([4]) .
ورُوِيَ عنه رضي الله عنه أنه قال : رحِمَ الله ُ امرءًا أصلَحَ من لِسَانِهِ . وذكره الأنباري عنه مرفوعًا إلى النبي صلى الله عليه وسلم .
ورَوَى الحاكمُ عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال : سمعَ النبيَّ صلى الله عليه وسلم رجلًا قرَأَ فلَحَنَ ، فقال صلى الله عليه وسلم : «أرْشِدُوا أخَاكُمْ»([5]) .
وكان عبدُ الله بن عمر يضرب وَلَدَهُ على اللَّحْنِ .
وكان عبدُ الله بن المبارك رحمه الله يقول : اللَّحْنُ في الكلام أقبحُ من الجِدْري في الوجه([6]) .
واليوم تجد اللَّحْنَ في كل مكان ، لا يكاد يَسْلَمُ منه أحدٌ ؛ الأصاغرُ والأكابرُ ، وخطباءُ الجمعة ، وغيرُهم ، كلُّهم يَلْحَنُونَ ، العُجْمَةُ أصبحَتْ داءً عُضَالًا ، واعْوجَاجُ الألسنةِ أصَابَ حتى العربَ الأقْحَاحَ ..
وأشَدُّ اللَّحْن سوءًا وأكثرُهُ عيبًا ، ما يقع في قراءةِ القرآن .. ومرَّ في حديثِ أبي الدرداء ما يفيد أنه نوعٌ من الضلال يحتاج من يقع فيه إلى إرشادٍ ، حَسْبَ اللفظِ النبوي ..
وتجنُّبُ اللَّحْنِ في قراءةِ القرآن يتحقق بتعلُّمِ «التجويد» وإتقانِهِ ؛ وهو من أهم علوم العربية ، وسبقت وصية الفاروق رضي الله عنه بتعَلُّمِ العربيةِ .
واللَّحْنُ عند المُجوِّدِين قسمان : جَلِيٌّ وخَفِيٌّ ؛ فأما الجليُّ فهو خَلَلٌ يَطْرَأُ على الألفاظِ فيُخِلُّ بالمعنَى والعُرْفِ ، أو خَلَلٌ يطرأُ على الألفاظ فيُخِلُّ بالعُرْفِ دون المعنى [من عبارة الجزري في التمهيد] ، والمقصود بالعُرفِ أحكامُ التجويدِ ، فهي عُرْفُ أهلِ الأداءِ ، فمخالفةُ أحكام التجويد لَحْنٌ ، فإذا كانت هذه المخالفةُ واضحةً بحيث يشتركُ في معرفتها أهلُ التجويد وغيرُهم سُمِّيَ اللَّحْنُ جَلِيًّا ؛ أي واضحًا ، مثل الإخلال بمَبْنَى الحرفِ أو بحركة الإعرابِ ، والإخلالُ بالحروفِ يكون سببُهُ عدَمُ تحقيق مخارجِهَا ، وصفاتِهَا التي تتميز بها ، وهذا أهمُّ مطالبِ التجويدِ ؛ قال الحافظ أبو عمرو الداني : «اعلموا أن قُطْبَ التجويد ومِلَاكَ التحقيقِ معرفةُ مخارجِ الحروفِ وصفاتِهَا التي بها ينفصل بعضُهَا عن بعضٍ وإِنِ اشْتَرَكَ في المخرج ..»([7]).
وهذا الإخلالُ بالحروفِ أو بحركاتِ الإعرابِ يُعَدُّ لحنًا جليًا وإنْ لم يُفْسِدِ المعنى فكيف إذا أفسَدَ المعنى ..
ويدخل في اللَّحن الجليِّ مخالفةُ أحكام التجويد المُجْمَعِ عليها وإن لم يكن بها تغييرٌ للحرفِ أو الإعرابِ ، مثلُ قَصْرِ المُتصِل أو تَرْكِ الغنَّةِ بالكليةِ ، أو غَنِّ ما لا غُنَّةَ فيه ، أو إمالةِ ما لا إمالةَ فيه .
ومن اللحن الجليِّ الوقوفُ القبيحةُ التي يكون فسادُ المعنى فيها واضحًا جليًّا : مثلُ الوقفِ على المَنْفِي من كلمةِ التوحيدِ ؛ فيقولُ : (فاعْلَمْ أنَّهُ لَا إِلهَ ..) ويقف ، ومثلُ الوقفِ على المَوْتَى في قوله (إِنَّمَا يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَالمَوْتَى) ويقف .
وأما اللَّحنُ الخفيُّ فهو الخطأ الذي لا يدركه إلا الحُذَّاقُ من أهل الأداء ويخفى على العامَّةِ ، وغالبًا ما يتعلق بتحسين النطق وإتقان شرطِ الأداءِ لا بتصحيحِ النطق ، أو تحقيقِ شرطِ الأداءِ ، مثلُ عدم ضبط مقادير المدود ، أو عدم المساواة بين مقادير المدِّ الواحدِ في المَقْرَأ الواحدِ ، كأن يَقْصُرَ المنفصل في موضع ويمده في الموضع الذي يليه، ومثل زيادة التكرير في الراآت أو تطنينِ النونات ، أو تغليظِ اللاماتِ في محل الترقيق ، أو العكس ، أو تفخيم الهاءاتِ في لفظِ الجلالةِ (الله) في حالة النصب ، أو نحو ذلك ، واللحن الخفيُّ قلَّ من يَسْلَمُ منه ، وفيه تختلف مقاماتُ المُجَوِّدين إتقانًا وإحكامًا ، فهم درجاتٌ في السلامةِ منه بَعْضُهَا فوق بَعْضٍ ، لكنه إذا كَثُرَ في قراءةِ المُجوِّدِ أفْسَدَهَا .
وفي حكم الصلاة خلف من يلحن ، يفهم من كلام الخِرَقي وصاحبِ المغني ، أنه لا يجوز للمُجَوِّد أن يأتمَّ به إذا كان يلحن لحنًا يُحِيلُ المعنى ، ويكره إذا كان لا يحيل المعنى .
ولا يُعْتَدُّ بصلاته فعليه الإعادة في الحالة الأولى([8]) .
نصل بعد ذلك إلى موضوعنا وهو اللَّحْنُ في محراب التراويح في المسجدين المقدَّسين : المسجدِ الحرام والمسجدِ النبوي :
مما يَحُزُّ في النفسِ أننا صرنا نسمع كثيرًا من اللحن الجليِّ من بعضِ أئمةِ المسجدين، وأما اللحن الخفيُّ فلا تسأَلْ عنه لكثرته ..
قبل الشروع في تفصيل ذلك أحب – اعترافًا بالفضل لأهله – أن استثني الشيخين المتقنين : الشيخ سعود الشريم بالمسجد الحرام ، والشيخ علي الحذيفي بالمسجد النبوي ، فلم أسمع في قراءتهما شيئًا من اللحن الجليِّ ، وأندرُ من النادر وقوعُ شيءٍ من اللحن الخفيِّ منهما ؛ فنسأل الله تعالى أن يبارك فيهما ويحفظهما ذخرًا للمحراب وللمسلمين .
لكن الباقين سامحهم الله يأتون بالعجائبِ ؛ كأنهم يقرأون حَسْبَمَا يشتهون ، لا حَسْبَ شرطِ الأداء ؛ فيقعون في اللحن الجليِّ ، وكثيرٍ من اللحن الخفيِّ ، ومثلُ هذا في هذا المقام لا تقتصر فيه الفضيحةُ التجويديةُ علينا في الداخل بل تُنْشَرُ في العالم بواسطةِ البَثِّ الفضائيِّ ، حتى قال لي أحدُ شيوخِ القراء خارجَ المملكة : إن لم يكنْ عندكم مُجوِّدون مُتْقِنُونَ نُرْسِلُ لكم من عندنا . فتذكَّرْتُ ما صنع الملكُ عبد العزيز رحمه الله مُؤسِّسُ المملكة ؛ أول ما عيَّنَ في المسجد الحرام قارئًا مصريًا هو الشيخ عبد المهيمن أبو السمح رحمه الله ، وعَيَّنَ في المسجد النبوي إمامًا مغربيًا هو أستاذنا الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله ، لكنه لم يكمِّلْ سَنَةً في الإمامة ، حيث عُزِلَ بناءً على شكوى من أهل المدينة أنه يُطِيلُ في الصلاة ، هكذا سمعْتُ من بعض أهل «النُّخَيْل» لأنه انتقل إليهم بعد عزلِهِ وفتَحَ عندهم درسًا في «التوحيد» .
وينبغي أن يُفهم من خطوة الملك عبد العزيز رحمه الله بتعيينِ هذين الإمامين أهميةُ هذين المسجدين المقدَّسين للعالمِ الإسلامِي ، فأَحبَّ أن يُشْرِكَهُ في إمامتهما ..
ونحن اليوم لا نحتاج إلى أئمةٍ من خارج المملكة ، ففيها من القراء المتقنين الكثيرون والحمد لله ، وفيها نهضة قرآنية لم يسبق لها نظير في التاريخ القريب ، فالألوف المؤلَّفة اليوم من الصغار والكبار يحفظون القرآن ويُجوِّدونه ..
لكن لا عذر لنا إذا نصَّبْنَا في هذا المحراب الهام الخطير من لا يُجوِّد القرآنَ ويقع منه اللحنُ الجليُّ والخفيُّ ؛ ثم ننشر هذا على العالم بالبث الفضائي ؛ إن هذا يشبه تحريفَ القرآن ، ثم نشْرَ هذا التحريف على أوسع نطاق ؛ لأن من يقف في محراب المسجد الحرام أو محراب المسجد النبوي هو في مقام الاقتداء به ، فإذا لَحَنَ يقتدي الناس بلحْنِهِ ، أي بخطئه .
وقد سمعْتُ بعضَ أئمةِ المساجدِ يقتدون ببعض أئمة الحرمين في أخطائهم ، مما هو من قبيل اللَّحْنِ الجليِّ ..
يتبع